خمس سنوات على جرائم بلا عقاب!

صبحي غندور

خمس سنوات مرّت على جريمة كبرى بحقِّ وطنٍ وشعبٍ وأمَّة، بحقِّ العراقيين والعرب، كما كانت جريمة بحقِّ الأميركيين وأبنائهم القتلى والجرحى في حربٍ قامت على أكاذيب وتضليل، ولم يُحاسب عليها بعدُ أحد!
أيعقل أن تكون الأجهزة الرسمية الأميركية قد أكّدت أن لا علاقة للنظام العراقي السابق بالهجمات الأرهابية على أميركا عام 2001، وبأنّ العراق لم يكن فيه أسلحة دمار شامل، ورغم ذلك لا يخضع أي مسؤول أميركي للمحاكمة والعقاب بعدما قامت الحرب على هذه الادّعاءات؟!.
لقد ترافق انكشاف الأكاذيب التي أطلقتها الإدارة الأميركية كمبرّرات أعطيت للأميركيين قبل غزو العراق مع تداعيات الأوضاع فيه، وحجم الخسائر البشرية والمادية الأميركية كمحصّلة للتورّط الأميركي في هذه الحرب، لذلك، أصبحت المسألة العراقية رمزاً لدى الأميركيين لقضايا عديدة وليست فقط شأناً من شؤون السياسة الخارجية. فعدم الثقة بمصداقية الإدارة كانت نتيجة من نتائج الحرب على العراق، إضافةً إلى مئات المليارات من الدولارات التي تستهلكها هذه الحرب بينما تعاني الخزينة الأميركية من عجز مالي يتصاعد يوماً بعد يوم، وبينما يزداد الاقتصاد الأميركي تدهوراً ويُحرَم المواطن الأميركي من استغلال هذه الأموال في مشاريع صحية واجتماعية وتربوية لا تنفّذ بسبب عدم وجود الميزانية الكافية لها.
وقد أثبتت الانتخابات التمهيدية الجارية في الولايات المتحدة أنّ غالبية الأميركيين يريدون نهجاً مختلفاً عن نهج وسياسة الإدارة الحالية، وهذا ما يعزّز حتى الآن الفرص الكبيرة للحزب الديمقراطي بالفوز في انتخابات الرئاسة وغالبية مجلسي الكونغرس، كما حدث في نوفمبر 2006.
إنّ الإدارة الأميركية تقول الآن للأميركيين إنّ مشكلة العراق هي في أهله وفي حكومته، وفي الصراعات الداخلية العراقية وعدم تنفيذ المسؤولين العراقيين لواجباتهم ومهماتهم، بينما المشكلة الحقيقية هي في وجود الاحتلال، وبما قامت به إدارة الاحتلال هذه من هدمٍ لمقوّمات الدولة العراقية وليس فقط إسقاط نظام ديكتاتوري كان معظم الشعب العراقي ينشد سقوطه لكن لا من خلال الدبابات والطائرات التي هدّمت العراق وأركانه السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية..
فما يُفترض أن يكون "نموذجاً" لحركة التغيير "البوشية" في المنطقة، أي العراق، أصبح كابوساً على المنطقة وعلى السياسة الأميركية نفسها، وتحوّلت الحرب الأميركية في العراق إلى مستنقع سياسي وأمني غرقت فيه السياسة الأميركية ولم تخرج بعدُ منه.
إنَّ الإدارة الأميركية كانت طبعاً – ولا تزال - تعتبر أنَّ الأولوية في سياستها بالشرق الأوسط هي للحرب على العراق، لكن المواجهة السياسية الأميركية المفتوحة مع إيران جعلت واشنطن تتخبّط في سياستها تجاه الأزمات الأخرى بالمنطقة.
فمراهنات إدارة بوش على حروب إسرائيل في فلسطين ولبنان لم تحقّق أيَّ نجاحٍ عسكري على الأرض وأدّت إلى نتائج سياسية معاكسة للأهداف الأميركية.
والتهديدات الأميركية المتواصلة لإيران لم تؤدِّ إلى تراجع إيراني أو إلى تضامن دولي فعّال مع الدعوة الأميركية لعزل إيران ومعاقبتها.
كانت واشنطن تراهن على أنَّ إخراج سوريا عسكرياً من لبنان، ثمَّ عزل "حركة حماس" في غزة، ثمَّ الحرب الإسرائيلية على "حزب الله" وكلِّ لبنان، ستؤدّي كلّها إلى إضعاف إيران بالمنطقة، ومن ثمَّ إلى إمكان إضعاف نفوذها في العراق، والتمهيد ربّما لمواجهة محدودة معها إذا لم تتراجع هي ذاتياً، فتكون نتائج ذلك كلّه لصالح مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي دعت له واشنطن.
بل ربّما كان المشروع الأميركي/الإسرائيلي المشترك في الحرب الأخيرة على لبنان، أن تنجح إسرائيل في ضرب "حزب الله" عسكرياً وأن تقتل قيادييه وتشتّت قواه، وأن تؤلّب الشعب اللبناني ضدّه، ثمّ تضرب إسرائيل في الوقت نفسه بعض المواقع السورية وبعض مراكز القيادات الفلسطينية في دمشق، ممّا يؤدّي عسكرياً وسياسياً إلى إضعاف النظام السوري والقوى الفلسطينية المتحالفة مع دمشق. ولو حدث ذلك، لاضطرّت "حركة حماس" إلى تراجعاتٍ كثيرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هكذا كان المشروع، بينما نتائج الحرب الأخيرة في لبنان قد أدَّت عملياً إلى تجميده، لكن ليس إلى التخلّي عنه لدى الإدارة الأميركية، بدلالة النهج الذي تسير عليه الإدارة الآن وما هو محصّلة من زيارة بوش ثم نائبه تشيني للمنطقة.
فالإدارة الأميركية هي الآن أمام معضلتين: ما يحدث في العراق من عجزٍ أميركي عن ضبط أوضاعه، ثمّ الفشل السياسي الأميركي في أهداف المواجهات العسكرية الإسرائيلية مع كلٍّ من "حزب الله" و"حركة حماس"، وبالتالي استمرار المواجهة السياسية مع سوريا وإيران بلا حسم نهائي لها.
وستكون إدارة بوش مخطئة جداً بحقِّ المصالح الأميركية وبحقّ الحزب الجمهوري الذي تحكم باسمه، إذا لم تقم فعلاً بمراجعة إستراتيجية لسياستها، وليس فقط لأساليب عملها، وإذا ما اندفعت في مغامرات عسكرية جديدة في المنطقة.
حتى الآن، لا مؤشّرات عملية على تغييرٍ قريب يحدث في السياسة الأميركية، لكن التراكم الكمّي لحجم الفشل، سيحتّم التغيير النوعي مستقبلاً في الحكم الأميركي وفي الأوضاع العربية عموماً.
إنَّ ما حدث ويحدث في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة يؤكّد أهميّة التوافق على ثلاثية الديمقراطية والتحرّر والهويّة العربية. فالعملية الديمقراطية من خلال الانتخابات التي جرت في هذه المناطق الثلاث كانت سقفاً أميركياً لا يجوز تجاوزه إلى المطالبة بالتحرّر من الاحتلال أو الهيمنة، أو إلى تأكيد الهوية العربية، بل أرادت حكومة واشنطن من العملية الديمقراطية عكس ذلك. أرادت الديمقراطية السياسية بديلاً عن حرّية الأوطان، ومدخلاً لصراعات داخلية تضمن الوصاية الأجنبية وتنزع الهويّة العربية لاستبدالها بهويّات طائفية ومذهبية وإثنية، تحت مُسمّى "الشرق الأوسط الجديد".
إنّ العراق يعيش الآن جملة عناصر مركّبة لأزمة واحدة صنعها الاحتلال، لكنه (أي الاحتلال) لم يصنع كل العناصر المتصارعة وإن كان يسعى لتوظيفها لخدمة مصالحه.
إنّ العراق اليوم فوق المقاومة التي يخوضها ضدّ الاحتلال هو ساحة صراع بين أميركا وإيران، وبين ميليشيات مسلحة، وبين أتباع نظام قديم وعسكر نظام جديد، وهو أيضاً ساحة لجماعات إرهابية تكفيرية قدِمت من أكثر من مكان لتقاتل في العراق أيّا كان غيرها. كما أنّ العراق حالياً هو مختبر هام لمشروع التقسيم الطائفي والإثني الذي تعمل له إسرائيل منذ خمسين عاماً في المنطقة، وقد حاولت تنفيذه في لبنان أكثر من مرّة، ولها (لإسرائيل) الكثير من العملاء الذين يتحرّكون اليوم في العراق.
إنَّ إيران مثلاً معنيّة حتماً بما حدث ويحدث في العراق، وقد ازداد دورها الفاعل بالعراق كمحصّلة لفشل سياسة الاحتلال ولكيفيّة إدارة المحتل لشؤون العراق، وأيضاً نتيجة غياب المرجعية العربية الفاعلة.
العراق هو أيضاً منطقة صراع هامّة بين كل القوى المجاورة له، وما يحدث في أرضه يعني مباشرةً دول المنطقة كلّها، ولا يعقل أن تكون هذه القوى والدول بعيدة عن التأثّر بأحداثه أو التأثير فيها إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
إنّ الخطر الداهم الآن هو على المنطقة العربية كلّها وليس فقط على العراق، أو لبنان أو فلسطين. ففي هذه الأزمات الثلاث صراعات ترتبط دون شك بمشكلة الاحتلال وبالحكومات القائمة، لكنها تعبير أيضاً عن تفاعلات ووقائع قائمة تعيشها وتشهدها الأمَّة العربية كلَّها. وهي نتاج طبيعي لتدخّل أجنبي يحدث دون إرادة عربية مشتركة في مواجهته، فيحصل الاستفراد بالأوطان لكن في إطار المشروع الأميركي الواحد لكل منطقة الشرق الأوسط. ومع هذا المشروع الأميركي، يتحرّك على الأرض منذ سنوات، المشروع الإسرائيلي الهادف إلى تقسيم البلاد العربية لتكون الدولة اليهودية الأقوى هي المهيمنة على الدويلات المتصارعة.
وعلى جوار حدود الأرض العربية، ينمو المشروع الإقليمي الإيراني، والمشروع التركي أيضاً، وباستفادة قصوى من خطايا السياسة الأميركية ومن الصراعات العربية ومن غياب المرجعية العربية ذات المشروع الواحد لمستقبل الأمّة العربية