بيروت تكتشف باطنها الروماني

بعد ميدان سباق الخيل في وادي بوجميل... آثار لمجمّع ديني في الجميّزة

بيروت تكتشف باطنها الروماني

أحد فرق التنقيب خلال العمل

بيروت، هذا القلب النابض بالحياة والمزدحم بالسكان والادارات الرسمية والمحال التجارية والمقاهي والملاهي الليلية... هي ايضاً معقل آثار ترسم تاريخ هذه المدينة وتعرفنا على ماضيها وماضي سكانها، اضافة الى عادات وتقاليد الاجيال التي وطأت هذه الارض على مرّ التاريخ.

معلم اثري جديد اكتشفه علماء الآثار نهاية الشهر الماضي في منطقة وادي بوجميل في بيروت، هو ميدان سباق الخيل الروماني الذي يبلغ ارتفاع مدرجاته امتاراً عدة ويزيد طول الجزء المكتشف من حلبة السباق فيه عن تسعين متراً. وعلى مسافة قريبة من هذا الموقع لا تزال اعمال التنقيب جارية في احد مواقع منطقة الجميزة، حيث بدأت تظهر آثار اخرى يرجح انها تعود الى مجمّع ديني روماني يمتد على مساحة عشرة الاف متر.

مسؤول الحفريات الاثرية في المديرية العامة للآثار اسعد سيف شرح لموقع "nowlebanon.com" ان اعمال الحفر في موقع وادي بو جميل بدأت منذ اربعة اشهر باشراف فريق من جامعة هولندا يرأسه هانس كورفرز".

ويضيف سيف ان اعمال الحفر بدأت قبل اربعة اشهر ولكن بفترات متقطعة "لان المواقع في بيروت تفرض علينا، عندما نصل الى مستوى معين، ان نقوم بما يسمى تدعيم المقاطع كي لا يسقط الردم، ما قد يشكل خطراً على السلامة العامة، وهذا يتم بالتنسيق مع اصحاب الارض ومع المتعهدين. ولا يزال امامنا نحو شهرين ونصف شهر كي ننهي كل الاعمال الاثرية في هذا الموقع فقط".

بالاستناد الى دراسات اثرية ونصوص تاريخية عن بيروت، اكتشف موقع وادي بو جميل حيث ميدان سباق الخيل الروماني. ويقول سيف " خلال الحفريات كنا نجري التحقيقات اللازمة للتأكد من وجود هذا المعلم في هذا المكان. لذا حفرنا في اكثر من موقع الى ان وجدناه، وعثرنا على تتمته في عقار آخر".
الاثار التي عثر عليها في ميدان السباق الخيل الروماني تتكون من ثلاثة عناصر رئيسة، هي بحسب سيف "جدار في وسط الحلبة كانت الخيول تدور حوله، والميدان الذي تدور فيه الاحصنة، والمدرجات".
كما ان هذه الاثار التي اكتشفت شملت ايضاً عشرات القطع النقدية الرومانية البرونزية التي عثر عليها في مكان بالقرب من الموقع الذي تركض فيه الخيول. اما سبب وجودها فيشير سيف الى انه موضوع حمل الكثير من التفسيرات، "الا ان الدراسات اللاحقة ستثبت القصة الحقيقية لها. نحن اليوم نحاول ان نأخذ نماذج نعيشها حالياً ونطبقها على العصور الماضية، لذا رجح البعض ان تكون هذه القطع النقدية بمثابة مكافأة يرميها الجمهور الحاضر في الميدان على الحصان الذي يفوز بالسباق، ولكن هذه تبقى تحليلات ونماذج غير دقيقة مئة في المئة".

كي نحافظ على اي موقع اثري يجب ان يصار الى ترميمه ولكن المديرية العامة للاثار لم تأخذ بعد القرار النهائي، ليس قبل ان ينتهي العمل في الموقع الاثري ككل ويتم الاتفاق مع اصحاب الارض. الا ان سيف يرى ان "كل الشروط موجودة لتحويل موقع وادي بو جميل الى موقع اثري سياحي". وفي هذا السياق يشرح ان " الامر يتعلق بمفاوضات بين المديرية العامة للاثار ووزارة الثقافة من جهة، واصحاب الارض من جهة اخرى، وفي العادة عندما يكون على الادارة اتخاذ قرار من هذا النوع يجب شراء هذه الارض، والسعر يحدد بناء على قيمة الاثار التي اكتشفت وطريقة حفظها ونوعيتها".

بعد اكتشاف الاثار ومن الناحية الاثرية فان المديرية العامة للاثار تضع يدها على الموقع وتصبح هي الجهة المخولة الوحيدة اجراء اي تعديلات عليه. وهنا يوضح سيف انه "وفقاً لقانون الاثار لا يحق لاحد ازالة اي معلم اثري او تدميره، والا يعاقب وفقاً لما ينص عليه القانون لان هذا معلم تاريخي. كما ان المديرية العامة للاثار تتولى الاشراف على تفكيك الاثار ودمجها في البناء، في حال تقرر اعادة دمج الموقع بالبناء الموجود. اما في حال تقرر الابقاء على كل شيء في موقعه وتحويله موقعاً سياحياً، فعلى مديرية الاثار او وزارة الثقافة الاتصال بوزارة المال لتأمين المبالغ اللازمة لشراء الارض".

ويبدو ان بيروت تحتضن في باطنها الكثير من المواقع الاثرية، تم الكشف عن بعضها وقد يكون بعضها الآخر لا يزال مطموراً تحت الارض.
وفي هذا السياق، كشف سيف عن اعمال تنقيب اخرى كثيرة تعمل عليها المديرية العامة للآثار حالياً، وغالبيتها في بيروت: "ثمة اربع او خمس عمليات تنقيب في الوقت نفسه، احداها في منطقة الاشرفية والجميزة، والفرق التي تعمل على هذه المواقع تتالف من علماء آثار لبنانيين من الجامعات اللبنانية".
ويتابع "نحن اصبحنا نعرف النمط الطوبوغرافي لبيروت القديمة في الفترة الرومانية، لذا كلما نقترب من تلة الاشرفية نجد منطقة مدفنية، والان الحفريات تتركز في احد مواقع فرن الحايك بالقرب من غندور السعد حيث توجد مدافن رومانية، وفي موقع آخر بالقرب من الجميزة تقريباً على بولفار جورج حداد حيث يتبين معنا بقايا مجمّع ديني روماني".
فادي بعينو، منسق الحفريات في منطقة الجميزة، شرح لموقع "لبنان الآن" انه "في العام 2004 اكتشفت اثارات الجميزة في خلال احدى ورش البناء وعلمنا ان العقارات المحاذية ايضاً تحتوي على آثار. نحن حفرنا ثلاثة مواقع في الجميزة، اعمال التنقيب بدأت العام 2005، بعض الاعمال انجزت واحد المواقع يلزمنا بعد نحو اربعة اشهر من العمل فيه. الآثار التي عثرنا عليها في الجميزة يبلغ عمقها ستة امتار وعمرها بين سبعين الف وتسعين الف سنة، اذاً هي ترسم تاريخ اكثر من حقبة".
ويضيف بعينو "عندما جمعنا الخرائط العائدة الى اكثر من موقع محفور، عثرنا على مبنى كبير تبلغ مساحته نحو عشرة الاف متر مربع من الآثارات التي يرجح ان تكون مجمعاً دينياً رومانياً، ولكن الدراسات هي التي ستؤكد هذا الامر او تنفيه".
فريق العمل الذي يشرف على اعمال التنقيب يتألف من 15 الى 20 شخصاً هم لبنانيون، ولكن يقول بعينو انهم يضطرون "احياناً الى الاستعانة بخبراء اجانب عندما نحتاج اجراء دراسات وتحاليل مخبرية غير متوافرة في لبنان، عندها نرسل عينات الى الخارج لاجراء الدراسات اللازمة".

مع مرور الوقت، تطوّر عالم الآثار من منقب وباحث عن القطع النادرة والمميزة الى محقق وباحث يفتش عن تاريخ هذه القطع واهميتها ورمزيتها.
وهنا يشير بعينو الى ان "عملنا اليوم لم يعد يعتمد، كما في الماضي، على البحث عن القطع الجميلة، نحن اليوم نبحث عن معلومات، نحن نتحرّى عن كيف كان يعيش الانسان في الماضي ويستخدم هذه الاثار. فنعمل على اكتشاف من وضع هذا التراب وهذا الفخار، ومتى وكيف. ومن خلال هذه الدراسات نتمكن من معرفة عمر هذه الاثارات وتاريخها والمراحل التي مرت بها".
وعن اهمية هذه الاثار بالنسبة الى العاصمة، اعتبر بعينو ان "هذه الاثار هي جزء مهم من تاريخ العاصمة، فنحن من خلالها نعرف تاريخ المجتمعات التي كانت تعيش على هذه الارض قبلنا، وتفاصيل حياتها: هل كان الناس فقراء ام اغنياء، ابنيتهم هل كانت متطورة ام لا؟ هذه المعلومات نربطها بالمعلومات التي نعرفها عن تاريخ بيروت لان المسألة سلسلة مترابطة وهي تشبه الـ puzzle، مثلاً الاثار التي تكتشف في وادي بو جميل والجميزة والاشرفية ووسط المدينة تجمع مع بعضها ومن خلالها نتعرف على تاريخ بيروت عبر مختلف الحقبات اي في خلال الفترة الفينيقية والرومانية والاموية والبيزنطية. وعندما تجهز الخرائط وهي تحضر على الكمبيوتر، يصبح بامكان اي كان التعرف على تاريخ بيروت في اي فترة من الفترات السابقة".
وشدد بعينو على ضرورة ان تكون بيروت موقعاً اثرياً تاريخياً بالنسبة لاهل البلد "الذين يجب ان يتعرفوا على تاريخ بلدهم كي يتعلقوا به اكثر ويفخروا به".